الضائعون في الرحلة

Paylaş

Bu Yazıyı Paylaş

veya linki kopyala

الضائعون في الرحلة

موسى أوزر

مجلة هاكسوز، العدد: 168، تموز/يوليو 2013

 

توجد العديد من الأبعاد في أحداث حديقة غيزي تستحق التوقف عندها. من بينها: مستوى التحالف الذي وصل إليه الكمالية مع التيارات اليسارية والاشتراكية، التعاون الذي أقامه الليبراليون مع هذه الأطراف ضد الحكومة، القوى التي دعمت هذه الاحتجاجات بحماس من القلب، من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، ومن إسرائيل إلى إيران، ورسائل قوى رأس المال الكبرى التي أعلنت وقوفها خلف هذه الأحداث، ووجود المعاديين للحجاب والمحجبات في نفس الاحتجاج، والاستخدام المكثف للدعاية والتحريض القائمين على الكذب والتزوير، وانقلاب الحقائق بحيث يتحول من يمارس العنف إلى ضحية يتحدث عن المظلومية. من هذه الجوانب وغيرها، يمكن مناقشة الموضوع.

أحياناً، أفضل طريقة لفهم كيف يُنظر إلى حدث ما، هي النظر إليه من الخارج. وفي هذا السياق، فإن الطريقة التي نظر بها المسلمون في العالم إلى أحداث غيزي بارك – من غزة إلى مصر، ومن باكستان إلى اليمن، ومن البوسنة إلى إفريقيا – مهمة للغاية. فقد تم متابعة الحدث في جميع هذه المناطق الجغرافية بقلق وانزعاج، باعتباره تحركاً شاملاً من جبهة الشر ضد الإسلام والمسلمين. وفي العديد من الدول، نُظمت فعاليات دعم لأردوغان. وربما كانت أكثرها رمزية هي التظاهرة التي نُظمت في القدس بقيادة رائد صلاح.

في مظاهرات الجمهورية وانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2007 التي أفضت إلى تولي عبد الله غُل الرئاسة، ومع انطلاق عمليات وقضايا “أرغنكون” و”باليوز” في نفس الفترة، رأينا ما يلي: دخل الكماليون والقوميون اليساريون والاشتراكيون بسرعة في وحدة خطابية وحركية. وقد تُوج هذا الوضع بالمظاهرة الاحتجاجية في شارع الاستقلال بقيادة زعماء أحزاب ومنظمات يسارية-اشتراكية، رفضًا لعمليات أرغنكون التي استهدفت صحيفة “أيدنلك” وقناة “أولوسال“.

اليساريون-الاشتراكيون توصلوا من خلال تحليلاتهم إلى أن مكتسبات الجمهورية العلمانية باتت مهددة، وأنه يجب خوض نضال شامل ضد هذا التهديد. وهذا كان بمثابة تحوّل داخل جبهة المعارضة نفسها. لقد بنى هؤلاء كل سياساتهم بشكل علني على معاداة الإسلام والعدوان على القيم الإسلامية. وأولئك الذين شاركوا في هذه الاحتجاجات، عارضوا رفع حظر الحجاب. وأينما وُجد مسؤول مسلم، أو مدير يُصلي، أو طالب متدين، كانوا ينشرون أخبارًا خبيثة عنه بشكل حقير. وقد عارضوا بشراسة فتح المصليات في المدارس، وإعادة افتتاح مدارس الأئمة والخطباء، وتنظيم قوانين الإجهاض، وإدراج مادتي “القرآن الكريم” و”السيرة النبوية” ضمن المواد الاختيارية في المدارس، إلى درجة وصلت إلى العدوانية.

إذا ما تمعّنا في الأمر، نجد أن هذه التعديلات (مثل فتح المصليات، ودروس القرآن والسيرة، وغيرها) لم تكن تمسّهم بشكل مباشر، ومع ذلك عارضوها فقط بسبب ما في داخلهم من عداء للإسلام. ومؤخرًا، نظموا مظاهرات في تركيا دعمًا لبشار الأسد(المخلوع)/نظام البعث، وشاركوا في عمليات مثل تفجيرات الريحانية. حتى مجرد تلبية السلطة السياسية لبعض مطالب الأغلبية في المجتمع، أي الشعب المسلم، كان كافيًا لإثارة جنون هذه الأطراف. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض الأوساط الليبرالية التي كانت تتخذ موقفًا داعمًا -ولو جزئيًا- في مواجهة الوصاية العسكرية والانقلابات، بدأت خلال العامين الأخيرين بعقد “مفاوضات ائتلافية” مع التحالف القومي اليساري الاشتراكي، وذلك بعد أن فشلت في تحقيق طموحاتها بالهيمنة، وغرورها، ورغبتها في أن تُعامل كطرف شريك طبيعي في السلطة.

لذلك، من منظور من ينظر من الخارج، كانت الصورة واضحة: أحداث حديقة غيزي – تقسيم اعتُبرت صراعًا بين أهل القبلة ومخالفيهم. ويمكن القول إن الغالبية العظمى من المجتمع التركي رأت الأمر على هذا النحو. فمن جهة كان هناك اليساريون الاشتراكيون، القوميون، الكماليون، العلويون، والليبراليون، ومن الجهة الأخرى أولئك الذين يُعرّفون أنفسهم كمسلمين. لكن، رغم هذه الصورة، وُجدت بعض الاختلافات. فقد كان هناك من بين من دعموا احتجاجات غيزي بارك بعض أبناء العائلات المتدينة، وفتيات محجبات، وبعض الكتّاب المنتمين للأوساط الدينية المحافظة. بل إن بعضهم أعلنوا صراحة من خلال بيانات مشتركة ومنظمات بأنهم يقفون في صف المحتجين. أما مشاركة إحسان إليأجيك وأتباعه – الذين اختاروا طريق الإفساد والانحراف منذ زمن بعيد – في هذه الاحتجاجات بطريقة متطرفة، فلم تكن مفاجئة. السؤال المطروح الآن هو: إلى أين سيقوده هذا الطموح والجشع نحو السلطة؟ هل سينتهي به المطاف في نفس معادلة توران دورسون، زكريا بياز، ويشار نوري أوزتورك؟. ويُقال إنه، نتيجة “نضاله” في الصفوف الأمامية ضمن جبهة غيزي كمجاهد علماني، قد يُعرض عليه الترشح للبرلمان من قبل حزب الشعب الجمهوري (CHP) في الانتخابات القادمة.

اليوم، هناك حالة من الكراهية تجاه إليأجيك وأتباعه داخل الأوساط الإسلامية بسبب دورهم في احتجاجات حديقة غيزي. مع ذلك، إليأجيك لم يتغير. فقد تم تسليط الضوء عليه من قبل الإعلام المركزي قبل ثلاث سنوات أيضًا، واُستخدمت بعض تصريحاته وتصرفاته آنذاك للنيل من الحكومة.

لكن الجانب الأخطر فيما يفعله هو عبثه بأصول الدين، وتعاطيه مع القرآن وكأنه نص عادي، وازدراؤه وإنكاره للسنة المتواترة، وطرحه لأفكار خاطئة تتعلق بمفاهيم الجنة والنار، والآخرة. وللأسف، رغم كل هذه الانحرافات، فإن بعض الجهات استمرت في منحه مساحة داخل الجمعيات، المؤسسات، ووسائل الإعلام، ودعته بصفته متحدثًا في فعالياتها. هذا الموقف الخاطئ في الأوساط الإسلامية ينبع في الأساس من سببين: السبب الأول: أن قادة هذه الجماعات لا يحبّون العلاقة بالفكر أو بالكتب. فهم غالبًا لا يهتمون بالخلفيات الفكرية للأفكار، أو بما قد تؤدي إليه من نتائج عقلية، ولا يعيرون اهتمامًا لتحليل أبعاد الفكر المتعددة. أحاديثهم لا تتجاوز سرد قصص الماضي مثل: “كنا نفعل كذا هناك، وفعلنا كذا هنا”، ولا يتعاملون مع الفكر بجدّية، لذا يتم تجاهل انحرافات أمثال إليأجيك بعبارات مثل: “ليكن، هو له رأيه ونحن لنا رأينا”. كما أن هذه البنى تتجنب وحدة الفكر والوضوح العقائدي، لأنهما يُعتبران عائقًا أمام الانتشار الجماهيري. السبب الثاني: هو ضعف ثقافة النقد داخل الأوساط الإسلامية. ففي بيئة لا تقبل النقد ولا تحب أن تُنتقد، يستطيع الجميع أن يقول ما يشاء دون تقييد. وبدافع “ألا نفسد علاقاتنا مع أحد” و”لنداري الجميع”، يتم التصرف بشكل انتهازي بحت. وعندما يصل الخطر إلى الأبواب، تبدأ محاولات تحديد “الخونة” في حالة من الذعر. لكن من الضروري التوقف فورًا عن اعتبار النقد – المتوافق مع الأخلاق الإسلامية – تهديدًا وجوديًا.

يرتدي البياض في الشتاء

إن مسألة “الكتّاب الإسلاميين” الذين شاركوا في احتجاجات حديقة غيزي أو دعموا هذه الاحتجاجات من خلال مقالاتهم، ساهمت في إثارة واحدة من المشكلات القديمة التي يعاني منها المسلمون منذ زمن بعيد. فقد قوبل البيان الذي صدر عن “منصة العمل والعدالة” – وهي تحالف متأثر باليسار الاشتراكي، ويُنظر إليه كتحالف مزيج من الاشتراكية المتأثرة بالليبرالية – حول أحداث حديقة غيزي، بعد 16 يومًا من بدء الأحداث، بانتقادات شديدة واعتراضات جذرية داخل الأوساط الإسلامية بشكل عام.

الفكرة الرئيسية التي وردت في ذلك البيان كانت على النحو التالي:

في وقت لا تزال فيه ممارسات انقلابيي 28 شباط/فبراير حاضرة بوضوح في الأذهان، ولم تتم محاسبة من ارتكبوا تلك المظالم بعد، فإن تصرّف حزب جاء إلى الحكم مدّعيًا تمثيل صوت المظلومين بنفس الغلظة والتعسف، يُعدّ دليلاً على استمرار اللاعدالة بأيدٍ جديدة. ولذلك، فإن السبب الحقيقي وراء التوترات التي شهدناها في الأيام الستة عشر الأخيرة هو من حاولوا تحويل المدينة دون الرجوع إلى الشعب، ومن أعطوا الأوامر باستخدام مفرط وغير منضبط لقوة الشرطة.”

البيان الذي وقّعه نخبة من مثقفي بلدنا المتميزين مثل: علي بولاچ، محمد بكار أوغلو، أيهان بيلغن، يلديز رمضان أوغلو، جيهان أكتاش، أوميت أكتاش، جُنيْت صري ياشار، عبد العزيز تانتيك، عثمان بوسطان، أحمد فاروق أونسال، فاطمة بوسطان أونسال، ياسمين تشوبان، فاطمة أقدكور، بولنت دنيز، محمد أَفه، ألبَر غنجر، عمر فاروق غرغرلي أوغلو، هدى كايا، جيهانغير إسلام، وعلي أونَر — كُتب وكأنه ردٌّ على سؤال: ما فائدة المثقف الإسلاموي في تركيا؟

لنترك جانبًا مسألة مدى “إسلاموية” هؤلاء الموقعين وما يمثلونه. ولنُسلّم جدلًا بأنهم إسلاميون بدرجة عالية. فلننظر أولًا إلى البيان نفسه. الطابع الغالب على البيان يُشبه إلى حد كبير البيانات التي تُعد داخل فروع جمعية حقوق الإنسان (İHD) التابعة لليساريين، وهو أمر يثير الاستغراب. إذ لا يختلف كثيرًا عما يصدر عنهم. ويبدأ البيان بطريقة غريبة، مع نكتة أدبية ملفتة:

أناس يحاولون حماية الأشجار التي لم يأوِ تحتها حتى الآن سوى الفقراء، وتقع في مركز المدينة…”
سبحان الله! وأين يكون هذا المكان يا تُرى؟ إنه حديقة غيزي!

من لا يعرف قد يظن أن الحديث يدور عن زاوية المتصوف “نُصرتي بابا! بيان “المثقفين الإسلاميين” يبدأ منذ السطور الأولى بتزوير الواقع، مقدِّمًا المكان الذي ارتُكبت فيه كل أنواع الفساد وكأنه دار للأيتام أو ملجأ للمساكين والمستضعفين.

يُفتتح البيان بأسلوب تحريضي، من خلال عبارات مثل:
إن اعتياد قمع كل احتجاج بعنف الشرطة بات يخنق الناس، وقد برز تحالف معارض جديد غير مسبوق في انتشاره، تشكّل تلقائيًا، وبدأ بالكشف عن نفسه بأسلوب جديد في المعارضة.”

العقلية السائدة في هذا البيان، وكما يُصرّحون بذلك صراحة، لا تؤمن بشرعية الحزب الحاكم، لا من الناحية الاجتماعية ولا السياسية، ولا تصدّق بجدوى إنجازاته. بل ترى أنه ألقى بالبلاد في أحضان السياسات النيوليبرالية، وحوّل كل شيء إلى أداة للربح والمضاربة، ويقمع المعارضين بسياسات قمعية، وهناك – حسب رأيهم – معارضة مجتمعية جدّية وشرعية ضد ممارسات الحكومة. كما يزعمون أن الدولة لم تخطُ أي خطوة في القضايا الجوهرية مثل المسألة الكردية، ومسألة العلويين.

إذا ما دققنا في الأمر، نلاحظ أنهم لا يعيرون أي اهتمام لمطالب المسلمين. كما يفترضون أن الدولة قد تم تطهيرها بالكامل من العناصر الكمالية والانقلابية. ولهذا السبب، وباعتبار أن حزب العدالة والتنمية بات صاحب السلطة المطلقة، فإن جميع الانتقادات تُوجّه إليه فقط.

السبعة اليقظون ومركز العالم

عند النظر إلى هوية الموقعين على البيان، سيتّضح أن بعضهم دخل منذ زمن طويل في تحالف كامل مع العناصر اليسارية والاشتراكية، وبدأوا ينظرون إلى الحياة والأشياء من منظور يساري-اشتراكي. أما بعضهم الآخر، فيُفهم أنهم يشاركون في الخطابات والأفعال المناهضة للحكومة بشكل أكثر خُبثًا نتيجة لهويتهم الإيرانية المُبطنة. وهناك من بينهم أيضًا من يسعى باستمرار وراء أي نص يمكنه التوقيع عليه، فقط لأن حكومة حزب العدالة والتنمية لم تُعره اهتمامًا. وأما أولئك الذين يعارضون حزب العدالة والتنمية بدافع الهوية الإيرانية والتوجّه الإيراني، فلم يكن من الممكن أن يُفقد توقيعهم على البيان. وأما مشاركة الزوجة، والابنة، والابن جميعًا في التوقيع، فهي على الأرجح تعبير عن رغبة جماعية في الانضمام إلى “كوميديا جماعية” لا تخلو من العزيمة والحماس! يا للعجب! كم من الأشخاص في أوساطنا لديهم شغف بأن يكونوا “كتّابًا” أو “مفكرين”! ما شاء الله، من أمسك قلمًا أو جلس خلف لوحة مفاتيح، وتمكن من جمع خمس جمل متتالية يُصبح “مفكرًا”، وإذا كتبها عموديًا يصبح “شاعرًا”!

أما عن الجانب المتعلق بالتقوى، والأخلاق، والشخصية الإسلامية، فلا حاجة أصلاً للخوض فيه، لأن هذه المعايير لا تعني شيئًا على الإطلاق لبعض هؤلاء. فهل نقيّمهم من زاوية الكتابة والثقافة والوعي الفكري؟ تَذكّر ذاك المشهد المعروف: رجل فقير بائس، يراقب بلهفة فضلات طعام رجل غني، يفرك يديه مترقبًا اللحظة التي تُلقى فيها بقايا الطعام. حال من يصفون أنفسهم بـ”الكتّاب الإسلاميين” أو “المفكرين الإسلاميين” يُشبه هذا تمامًا. فمع ضعف زادهم المعرفي وهزال أدواتهم الفكرية، لا يملكون منهجًا ولا منظورًا يوجّههم في النظر إلى الأمور. وفوق كل هذا، لا يشغلهم أن يكونوا مع المسلمين، في صف واحد، ضمن جماعة واحدة، أو ضمن نضال مشترك. إنما هم سعداء ومطمئنون بخوض صراعات فكرية “مترفة” تحت ظل الليبرالي أو الاشتراكي اليساري.

أي جزء من هذا البيان – الذي اقتبسنا منه أعلاه – يمكن أن نبدأ بنقده؟ وأي تحريف يمكن أن نفضحه أولًا؟ أي تحليل هذا عن تركيا؟ هل يُمكن عرض مسيرة التغيير والتحول التي استمرت عشر سنوات بهذه السطحية؟ حتى أي حزب معارض عادي في البرلمان يمكنه تقديم تحليل أكثر إنصافًا وواقعية من هذا البيان. ما كُتب في البيان يُشبه تمامًا أسلوب منظمات ماركسية-لينينية التي، من أجل ما تسميه بـ “الثورة”، تقوم بتزييف الحقائق، وتُصور الحياة لأتباعها القلائل بشكل مغاير للواقع، وتُطلق شعارات حماسية مضللة. أما الطريقة التي تم بها سرد أحداث غيزي، فهي كارثة أخرى بحد ذاتها. فكيف يمكن الوثوق بشهادة من وقّعوا على هذا البيان عمدًا؟
أولئك الذين لم يستطيعوا كبح أنفسهم عن قول:
المسؤول الحقيقي عن التوترات التي شهدناها خلال الأيام الستة عشر الماضية هو من حاولوا تحويل المدينة دون الرجوع إلى الشعب، وأولئك الذين أمروا باستخدام الشرطة للعنف بشكل غير منضبط
أي نوع من الحقد والتعصّب والتهوّر هذا الذي يجعلهم يتجاهلون فاشية تقسيم-حديقة غيزي، التي سُجّلت بأحرف من ذهب في تاريخ الفوضى والتخريب (الوندالية)؟

القاتل يتظاهر بدور الضحية

ماذا قيل للناس غير الأكاذيب طيلة تلك الأيام؟
نظرية المحاكاة (السيمولاكر) التي وضعها جان بودريار تشرح جيدًا ما حدث. فهو يصف “المحاكاة” بأنها الزيف الذي يستولي على كل مؤشرات الواقع ويحل محلّه.

القبول الذي تتبناه العناصر اليسارية-الاشتراكية، والذي يعتبر أن الغاية تبرر الوسيلة، يدفعهم لاستخدام الدعاية والتحريض بأسلوب لا أخلاقي إلى أقصى الحدود. ويمكن رؤية ذلك في كل حادثة، من طريقة نقل شجار بسيط بين طلاب في الجامعة إلى الرأي العام، إلى تفجير ريحانلي، ومن أخبار المصليات في المدارس إلى أحداث حديقة غيزي في تقسيم. وبالنسبة لمسلم لا يأتي من خلفية ماركسية-لينينية، من الصعب جدًا فهم ما تعنيه “الدعاية والتحريض” (الآجيطاسيون والبروباغندا). أما الخلط بينها وبين “الدعوة” و”التبليغ” في الإسلام، فذلك يشبه خلط الحق بالباطل. التقليد اليساري-الاشتراكي، الذي يمتلك براعة في قلب الحقائق السياسية والاجتماعية رأسًا على عقب، يتمكن من فرض هيمنته الخطابية بفضل عناصره في الإعلام، وتحالفه التاريخي مع القوميين الكماليين، والقرابة الثقافية بينهم. ولهذا السبب، يتم تقييم كل الأحداث التي وقعت في الماضي والحاضر ضمن إطار “التاريخ الرسمي” الذي تصوغه الخطابات اليسارية-الاشتراكية. ولنتذكر ردود الفعل التي وُجهت إلى هليل بيركتاي (Halil Berktay) المنتمي إلى هذا التيار، حين اعترض على المحاكاة التي تم إنتاجها بعد أحداث الأول من أيار/مايو 1977. أو لننظر إلى الهيمنة التي فُرضت على الرواية المتعلقة بأحداث سيفاس عام 1993. بعض الكتّاب والمثقفين في الأوساط الإسلامية، تحت ضغط هذا الخطاب المهيمن، يُصبحون ضحية له، فيخونون الحقيقة، ويهضمون حقوق المسلمين الذين هم في موقع المظلومية، ويصل بهم الأمر إلى تقديم الاعتذارات.

نرى أن الاستراتيجية والتكتيك اللينيني قد تم تطبيقهما بنجاح كبير:
الهجوم على القوى المقابلة، التقدّم عبر إثارة الصراع، وفي الوقت ذاته امتلاك تفوق في الدعاية والتحريض لعرض النفس على أنها الضحية والمعتدى عليها.

يمكننا ملاحظة هذا الأسلوب في العديد من الأحداث.
ففي الهجوم الأخير على ريحانلي، كانت التفجيرات من تنفيذ منظمات تنتمي إلى هذه الأوساط نفسها، لكن بعد الحادث مباشرة، خرجت نفس تلك الجهات إلى الشوارع في ريحانلي وغيرها من المدن. نظموا مظاهرات استفزازية، واعتدوا فيها على كثير من الأشخاص، وعلى رأسهم إخواننا المهاجرون السوريون.
فمن نفّذ الهجوم، “القاتل”، يستطيع أن يتحول فورًا إلى “الضحية”، وكأن ذلك يعكس مستوىً من الأخلاق والشخصية المتدنية التي يجسّدها. والمؤسف أن كثيرًا من الكتّاب والمثقفين الذين يُعرَفون بأنهم إسلاميون يقعون ضحية لهذه الألاعيب.
فهناك وسطٌ ثقافي يسمّي نفسه “المثقف الإسلاموي”، لكنه ينظر إلى الأحداث السياسية والاجتماعية من زاوية ليبرالية أو يسارية، بدافع مركّب لا يُفهم. ومادام هذا المناخ الثقافي لم يتغيّر، فسيظل هذا النوع من “المثقفين” يُلوّث الأوساط الإسلامية أكثر فأكثر.

لن تجعلوني أقول إن اليساريين والقوميين يمارسون العنف!

حتى المدافعون عن احتجاجات حديقة غيزي، حين يتحدثون عن عنف الشرطة، يركزون على “اليوم الأول” فقط. فكيف يمكن تفسير هذا الروح النضالية المتطرفة التي تُنسب إلى اليساريين-الاشتراكيين، بحيث يُطهّرون من كل عنف وتُشوَّه صور الأحداث لتُظهرهم بمظهر الضحايا؟

منذ اللحظة الأولى لأحداث غيزي بارك، تم ترسيخ خطاب عن “عنف الشرطة الوحشي” بشكل ماهر، عبر أساليب الدعاية والتحريض، حتى أصبح وكأنه أمر لا يمكن التشكيك فيه أو الاعتراض عليه. وأصبح الجميع تقريبًا، ومنذ الدقائق الأولى، يبدؤون أي نقاش بجملة:
لكن العنف المفرط الذي استخدمته الشرطة في اليوم الأول كان أيضًا خطأ.”
فأصبح من غير الممكن الكلام دون قول ذلك. ولم يعد هناك معنى لطرح أسئلة مثل: متى، أين، كيف؟
لأن “كل شيء واضح تمامًا”!

وهكذا، وبتدخل سريع من اليساريين والليبراليين، تم بناء هيمنة خطابية قائمة على التخريب اللفظي والتشويش الرمزي.

نحن، كمسلمين نعرف جيدًا ما هو “عنف الدولة”، وندافع منذ سنوات عن حق الناس في الاجتماع، التظاهر، والتنظيم، ووقفنا ضد القمع غير القانوني وسنواصل الوقوف ضده. هويتنا الإسلامية المعارضة تجعلنا نعترض حتى على الظلم الذي يُمارس بحق من نراهم على الجهة الأخرى من الساحة السياسية، أولئك الذين واجهناهم في المظاهرات لسنوات.

في مرحلة انقلاب 28 فبراير، يعرف المسلمون جيدًا ما هو عنف الشرطة، من خلال مشاركتهم في احتجاجات طلاب مدارس الأئمة والخطباء، والمظاهرات ضد حظر الحجاب، والاحتجاجات على اتفاقيات التحالف مع إسرائيل، واحتلال أفغانستان وغير ذلك من الفعاليات. وفي مظاهرات صلاة الجمعة في مسجد بيازيد، كان المسلم الذي لم يتعرض للضرب بالهراوات يشعر وكأن هناك خللًا في صلاته!

قد يُقال إنه مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، تحققت تطورات كبيرة بخصوص حرية الاجتماع والتظاهر؛ فلم تعد الشرطة تستخدم الهراوات أو تمارس العنف الجسدي كما في السابق، بل أصبحت تستخدم الغاز وخراطيم المياه فقط.
لا داعي للمبالغة!
قد يبالغ اليساريون-الاشتراكيون، لكن لا يليق بالمسلمين أن يفعلوا ذلك، ولا يجب أن يفعلوه. أين كنا وأين أصبحنا؟ من أيام التعذيب الممنهج في أقسام الشرطة، والتعليق على الطريقة الفلسطينية، والصعق الكهربائي، والضرب على الأقدام، والزجاج المكسور، وزجاجات الكولا، والرش بالماء البارد حتى فقدان الوعي، والضرب المبرح… إلى الوضع الحالي. وحتى الآن، لم يتمكن أعضاء حزب SDP (الحزب الاشتراكي الديمقراطي) الذين تم توقيفهم خلال أحداث غيزي من تقديم أي مثال على سوء المعاملة أثناء التوقيف، سوى أخذ عينات من لعابهم دون إرادتهم.

لقد ناضل الناس لسنوات طويلة من أجل إنهاء التعذيب وسوء المعاملة. وعندما تم القضاء عليه، فإن الاستمرار في التصرف وكأنّه لا يزال موجودًا ليس تصرفًا أخلاقيًا. نحن لا نقول إنّ الشرطة لم ترتكب أي خطأ في حديقة غيزي، فبالطبع كان هناك استخدام مفرط للقوة، لكن ليس بالمستوى الذي يصوره سكان جيهانغير أو أولئك الذين لم يتعرضوا في حياتهم للضرب بالهراوات بشكل حقيقي. وأما المنظمات اليسارية-الاشتراكية والقومية، فإنها تنظر إلى قدرتها على استغلال الحدث وتضخيمه وتحويله إلى محور لمعاداة الحكومة. لقد سُكبت كل الشعارات والمقولات فوق هذه النقطة. بينما في الواقع، ما حدث لم يكن سوى تجربة حرب شوارع، كتكتيك للاستيلاء على السلطة. وقد آمن اليساريون-الاشتراكيون بهذا الحلم سريعًا، وظنوا أن الثورة يمكن أن تتحقق من خلال بضع حواجز وبعض الكومونات البسيطة.

القوى “الطليعية” التي ستنجز الثورة بدأت الهجوم للاستيلاء على مقر رئاسة الوزراء. وفي الطريق، قاموا بتدنيس مسجد “بزم عالم والدة سلطان”. وعندما حاولت الشرطة منع الاستيلاء على مقر الحكومة باستخدام الماء والغاز، أصبح ذلك فجأة “عنفًا”. أما المتظاهرون، فيبدو أنهم كانوا يرمون زجاجات المولوتوف كما لو كانت ورودًا! كانوا يخلعون كل حجارة الأرصفة وكأنّهم متعاقدون مع شركة بلدية ويقومون بتدمير المكان. كل واحد منهم بدا وكأنه “كارلوس ماريغيلا” في نسخته الخاصة من حرب العصابات في المدينة. ولقد مارسوا العنف لعدة أيام، وأظهروا كل صور التخريب والفوضى، ثم قلبوا الحقيقة رأسًا على عقب!
ثم، بعد مرور 16 يومًا على الأحداث، يأتينا بعض من يُفترض أنهم “إسلاميون”، ليقدّموا بيانًا يحمّل الحكومة والشرطة مسؤولية الأحداث، ويُهوّن من عنف “الأتراك البيض”.
حقًا… إلى هذا الحد؟! يا له من شعور بالنقص والدونية المعنوية!

أطفال حديقة غيزي طيبون؛ الأطفال السوريون سيئون

قبل أن ننتقل إلى مسألة أبناء العائلات المتدينة الذين شاركوا في هذه الاحتجاجات وكان لهم دور في إعداد البيان، ينبغي أن نتناول جانبًا آخر من جوانب كتّاب هذا البيان الموقّعين عليه. النقطة الأساسية والمثيرة للانتباه هي أن غالبية من وقعوا على هذا البيان كانوا، وعلى مدار ثلاث سنوات من الثورة السورية، يقفون بشكل منهجي ضد المعارضة وضد المسلمين السوريين. لقد تبنّوا بالكامل الأكاذيب التي اختلقها الإيرانيون، والعناصر اليسارية-الاشتراكية، والقوميون العلمانيون عن المسلمين السوريين، وساروا على نهجها دون تردد. هؤلاء المظلومون المسلمون الذين تعرضوا للاضطهاد اتُّهِموا صباحًا ومساءً، ثلاث مرات في اليوم، بأنهم عملاء للولايات المتحدة، وإسرائيل، وحلف الناتو. ولم يتردد الموقّعون على البيان في استخدام كل الحجج الممكنة لتصوير الجهاد في سوريا كأنه عمل خارجي وإرهابي. وبينما كنا نحاول إثبات إسلام وإسلامية إخوتنا لهؤلاء “الوجهاء”، كانوا هم يسلطون الضوء دائمًا على شخص واحد فقط من بين نحو مئة ممثل للمعارضة السورية في الخارج — في البداية كان برهان غليون، ثم جورج صبرا — ليبرروا بعدهم عن المقاومة، بل ويجعلوا من تشويهها والتقليل من شأنها فضيلة.

هؤلاء الذين وقّعوا على هذا البيان، لم يقفوا يومًا إلى جانب المقاومة بعبارات صريحة وخالية من كلمة “لكن”. في كل فرصة كانوا يقولون: “نحن أيضًا ضد الأسد”، ثم يتبعون ذلك بـ “لكن”، لتأتي بعدها عبارات ظالمة، غير مبررة، مليئة بالاتهامات، منقطعة عن الواقع والسياق، وتفتقر إلى العقل والمنطق، مما يجعلهم عونًا للظالم ومعرقلين للمظلوم. أما اليوم، فقد بلغ الأمر حدًا أنهم لا يسمحون بانتقاد أبسط تصرفات أعداء الإسلام الذين يشاهدهم العالم والأمة الإسلامية علنًا. تريهم عشرات التنظيمات الماركسية، اللينينية، الستالينية، الماوية، الكمالية التي أعلنت الحرب على الإسلام، ومع ذلك لا فائدة! تريهم من قاموا فعليًا بالاحتجاجات وهم الأغلبية الساحقة، لكن بلا جدوى! يُظهرون ثلاث شجرات كأنها أُنزِلت من الجنة، وثلاثة أشخاص شاركوا في الاحتجاجات — محجبتين وملتحٍ واحد — ويحاولون أن يستخرجوا من هذا المشهد المنمّق كرامة مزعومة، وكأننا سنُخدع بهذه الصورة المُبَسَّطة. أي عقل يستطيع تفسير هذا التناقض الصارخ؟ في سوريا، المقاومة المشروعة ضد ديكتاتور تُعدّ أمرًا سيئًا، أما في تركيا، فإن التمرّد على حكومة منتخبة من قِبَل قوى علمانية معادية للإسلام وتستند إلى أساسات لادينية، لا يُنتقد أبدًا ولا يُعتبر خطأ. ومن المؤكد أن المفكر داريوش شايغان، كاتب كتاب “الوعي الجريح”، يتحسر لأنه كتب عن “الانفصام الثقافي” دون أن يرى مؤيدي احتجاجات حديقة “غيزي” في تركيا، إذ لكان كتابه أكثر دقة وشمولًا.

أولئك الذين ينظمون الاحتجاجات ويصدرون البيانات بدعوى أن الغاز والماء المضغوط هو “إرهاب بوليسي”، لو لم نكن نعرفهم لظننا أنهم أقاموا خيام الاعتصام ليلًا ونهارًا احتجاجًا على وحشية نظام البعث! أليس المنطق والأخلاق يقتضيان التماسك في المواقف؟ لكن أين هذا منهم؟

منذ ثلاث سنوات ونحن نحاول إقناع السادة والسيدات بعدالة المقاومة، دون جدوى. من حجج “عُود العُنُب” و”ساق الكمثرى”، إلى “ما لي دخل، إذا هو موجود فأنا لست موجودًا!”، ومن اعترافات العمى كـ”والله لا أعلم، لا نعرف من مع من!”، إلى مشاركات مجانية من نوع “جارتي، هل سمعتي؟ الأميركيون يدرّبون الكل في هاتاي بثلاث جلسات فقط!”، ومن صيحات “لا أسمح بكلمة ضد إيران أو ضد حبيبي!” إلى تهويدات “أرجوك، جهاد؟ لا، ضع السلاح، الشيطان قد يتدخل” — هكذا قضينا ثلاث سنوات.

هل نبحث عن نية حسنة؟ الأمر ليس بهذه السهولة. لدينا ما يكفينا من الشعارات الرنانة مثل العدالة، الحرية، العمل، الحقوق، مناهضة الرأسمالية، السياسات النيوليبرالية، النزعة المحافظة الجديدة، وما بعد الإسلاموية من أولئك الذين لم يخصصوا ولو لحظة من “أيام الضمير” للمقاومة الملحمية التي يخوضها مئات الآلاف من السوريين المهددة أرواحهم.

أولئك الذين لم يدعموا مقاومة المسلمين، ولم يقفوا بلا شروط أو مساومات إلى جانب شعب يخوض معركة الكرامة، وبدلاً من ذلك قدّسوا من أعلنوا الحرب في “حديقة غيزي” على أردوغان، وفي شخصه على المسلمين وقيمهم، إما أنهم يخونون عن وعي، أو أن قدراتهم العقلية لا تكفي لفهم ما يجري.

وفي كلا الحالتين، فالأمر سيئ للغاية!

من لم يزرع وفق الأصول، لن يحصد كما يجب

من الأفضل أن نترك هؤلاء الخبراء المحترفين في كتابة البيانات مع أبيات زيا باشا في قصيدته (تركيبي بند):
«
أصبح تحقير الصادقين ورفضهم قاعدة، أما الكرم والعناية باللصوص فابتكار جديد»،
ثم ننتقل إلى بُعد آخر من المسألة.

ما أثار الدهشة لدى البعض هو مشاركة أبناء عائلات متدينة، معروفة في الأوساط الإسلامية، في احتجاجات منتزه غيزي. وعلى الرغم من أن عددهم كان قليلًا جدًا مقارنةً بإجمالي عدد المشاركين في الاحتجاجات، إلا أن هذه المسألة تستحق التوقف عندها.

يجب تناول هذه القضية بوضوح ومن عدة زوايا.
في البداية، في سبعينيات القرن الماضي، جاء أبناء الأناضول — وغالبًا من عائلات فقيرة — إلى إسطنبول وأنقرة للدراسة الجامعية، وبعد التخرج استقر الكثير منهم في تلك المدن. هؤلاء الأشخاص الذين درسوا في ظروف اقتصادية صعبة وكانوا يعانون من وضع اجتماعي هش، بدأوا بالوصول إلى مواقع مختلفة تدريجيًا، أولًا خلال عهد أوزال، ولكن بشكل أكبر خلال صعود حزب الرفاه وتمكنه من الفوز بالانتخابات البلدية. الكثير منهم كانوا ضمن شبكات علاقات جماعية صريحة أو ضمنية، صغيرة أو كبيرة، وبفضل دعم هذه البنى تمكنوا من تقوية مواقعهم الاجتماعية والسياسية.”

التعرف على وسائل وأماكن وإمكانيات مختلفة جلب حتمًا معه شكلًا جديدًا من العلاقات وسلوكًا مغايرًا. ويجب القبول بوضوح أن البنية الاجتماعية والثقافية للمسلمين في تلك الفترة كانت بعيدة كل البعد عن أن تمتلك المصادر اللازمة لمنع أو تقليل أو علاج الضعف والمشكلات والأمراض التي قد تظهر نتيجة لهذه “الرؤية اللاحقة”. ففي أيامٍ مضت، عندما جاء أبناء الأناضول إلى إسطنبول العظيمة وهم قلقون بشأن ما سيفعلونه وحدهم، استطاعوا بفضل الجماعات اكتساب الحماية والتطور والدائرة الاجتماعية؛ وعندما أصبحوا “إسطنبوليين”، قاموا بحسابات هندسية دقيقة لرسم خارطة طريق مختلفة لأطفالهم. فلم يعد أولادهم مجرد مؤمنين يمارسون الإسلام والاعتماد على الجماعة، بل أصبحوا من الجيل الذي منذ بزوغ كلماته يُنفذ كل ما يقوله ويرغب فيه، وكأن العالم يدور حوله؛ حيث تلقوا تعليمهم في مدارس خاصة، وبجهد حثيث (وليس في تعلّم العربية) لتعلم اللغة الإنجليزية، حتى صار الهدف الأول والوحيد هو إرسالهم إلى جامعة البوسفور كرمز للفردية والحداثة.

حين نقارن تجارب الحياة التي عاشها هؤلاء الشباب بتجارب آبائهم وأمهاتهم في الطفولة والشباب، نجد أن تجربتهم تكاد تكون في مستوى البؤس. كما أن تجهيزهم الفكري تعرّض لضربة قاسية من وسائل الإعلام الجماهيري ووسائط التواصل الاجتماعي. جيل نشأ في بيئة ضعيفة في ثقافة قراءة الكتب، انجرف وراء ميكروب “تويتر” الذي يُضعف الذهن والعقل. وبفضل معرفته بالإنجليزية، صار بإمكانه أن يتواصل افتراضيًا على الفور مع أشخاص من أقصى العالم، بينما لم تعد لديه القدرة على شراء كيلو طماطم “جيدة” من البقال، ولا يمتلك ذهناً يمكنه تحليل الحياة أو ربط الأحداث ببعضها في إطار سبب ونتيجة. ومن الواضح أيضًا أن هذا الذهن غير قادر على أن يكون متماسكًا في مواجهة الحياة، ولا على أن يُنتج ممارسة إسلامية متزنة. وزيادةً على ذلك، فقد تلقّى هؤلاء الشباب ضربة كبيرة من والديهم في سن الطفولة. سيَتذكّر من عاشوا تلك الفترة من التسعينيات، وخصوصًا حين كانت الثقافة الليبرالية طاغية، كيف كانت العائلات المسلمة تُجادل فيما إذا كان من الصواب إعطاء الأطفال تربية دينية-إسلامية، أو تزويدهم بالمعرفة والوعي والأيديولوجيا الإسلامية.

كان يُنظر إلى تلقين الطفل الدين أو الأيديولوجيا على أنه أمر خاطئ، وكان يُزعم أن الأفضل أن يختار الطفل دينه بإرادته الحرة، معتبرين أن هذا أكثر صحة وقيمة واستدامة. لكن الحياة لم تُثبت صحة هذا الرأي، ولن تفعل. فهذه المقاربة كانت تحمل في جوهرها مشكلة أساسية، وهي افتراض أن مجرى الحياة طبيعي ومحايد وخالٍ من القيم، وهذا ما يجعلها خاسرة منذ لحظة انطلاقها من داخل البيت.

ففي المنزل، لم يكن يُلقَّن الطفل أي قيم أو معتقدات، لكن في المقابل، كانت شاشة التلفاز التي تبث عبر مئات القنوات وآلاف البرامج، إضافة إلى الإنترنت والعوالم الافتراضية، تحتل الطفل من جميع الجهات. وعندما يُرسل إلى المدرسة، يخضع لعملية تلقين مكثفة ليصبح تابعًا مخلصًا للأيديولوجيا الرسمية في إطار نموذج علماني-كمالي-لائكي، وذلك منذ الصف الأول الابتدائي حتى آخر سنة جامعية. بل حتى الفنون والثقافة والإعلام والأدب والرياضة كانت تُشكَّل ضمن هذه المنظومة العلمانية الكمالية، ولم تُترك أبدًا هكذا دون توجيه. وفي الوقت الذي كانت فيه كاتباتنا يتأثرن بظلال ڤيرجينيا وولف ويفتتنَّ بأدبها، كان ميدان تقسيم (Gezi Parkı) وسائر المدن والساحات الكبرى في الجمهورية الكمالية العلمانية تُبنى وفق هذا التصور الثقافي العلماني وتُقدَّم للشعب على هذا الأساس.

هؤلاء الشباب الذين لم يروا أو يعيشوا انقلاب 28 شباط/فبراير، ينظرون إلى الحياة بعد عام 2003 من خلال عدسة اليساريين الاشتراكيين والليبراليين، ضمن هذه الهيمنة المتغربة والمستلبة بالكامل. فهم لا يمتلكون تحليلًا تاريخيًا شاملًا للنظام العلماني الكمالي، ولا فهماً للانقلابات وآثارها، ولا إدراكًا لبنية النظام العالمي، ولا معرفة أو خبرة بالإسلامية أو الحركات الإسلامية. إنهم يبحثون عن حل لحالة السأم والضيق التي يشعرون بها من حياتهم — تلك الحياة الممولة من أموال آبائهم في مقاهي الجامعات الخاصة، والتي تطورت لاحقًا إلى ارتياد مقاهي وبارات تقسيم حتى ساعات متأخرة من الليل. حتى وإن كان عدد هؤلاء الأشخاص لا يتجاوز ثلاثة أو خمسة، فإن هذا السلوك يظل مقززًا.

وخلاصة القول: مهما تم التلاعب بالحقائق باستخدام حيل العلوم الاجتماعية، فإن الأشخاص المشاركين في أحداث “غزي” هم في النهاية نفسهم، أو شبههم تمامًا.

النظر إلى الشجرة وعدم رؤية الغابة

الآن يقول بعض الناس، كما ورد في البيان أعلاه، إن أول من بدأ احتجاجات حديقة “غيزي” كانوا أُناسًا ذوي نوايا حسنة، أرادوا التعبير عن رفضهم لسياسات الحكومة الخاطئة. ويحاول البعض تصوير عناصر يسارية-اشتراكية، وعناصر بيئية، ومجموعات فوضوية، والمجموعات المثلية التي تُعدّ المالكة الفعلية لحديقة غيزي، وغرف المعماريين والمهندسين، وأشخاص من اليسار الليبرالي المرتبطين بجامعة بيلغي، إلى جانب شابين بلحية وفتاتين محجبتين، كمثال للتعددية والأخلاق الرفيعة! يا لها من صورة مؤلمة!

إن اعتبار المجموعات الماركسية-اللينينية المتطرفة، والجماعات القومية الكمالية الكبرى التي دخلت لاحقًا واستلمت زمام المبادرة وارتكبت “بعض التجاوزات” على أنها المشكلة فقط، لهو أمر مثير للشفقة.
يا الله، ألهمنا الثبات في عقولنا!

أولًا، هناك خطأ في تقديم الحدث نفسه وكأنه بريء، مقبول، وجميل بطبيعته. بينما في الواقع، فإن الحدث منذ بدايته تشكَّل على أساس معادٍ للمسلمين. الأشخاص الذين لا يعرفون نموذج التنظيم اليساري-الاشتراكي، ولا يدركون العلاقة بين التنظيمات الشرعية وغير الشرعية والمجتمع المدني، يظنون أن كل شيء يدور حولهم وحول الكُتّاب الليبراليين اليساريين “أصحابهم”.

فعلى سبيل المثال، ما هو دور نقابة المعماريين، نقابة المهندسين، نقابة الأطباء، نقابة المحامين، أو نقابة المعلمين (Eğitim-Sen)؟ ومتى تبرز هذه النقابات؟
في أي مظاهرة تظهر فيها أعلام جماعات مثل DHKP، MLKP، MKP، TKİP، TİKB، TİKKO، TKEP-L، مقر الثوار، Partizan، حركة الطريق الثوري، ومنازل الشعب، وماذا يفعلون هناك؟
من يستطيع أن يتحدث أو يكون له صوت في وجود مثل هذه التنظيمات؟
ما هي أحزاب مثل الحزب الشيوعي التركي TKP، حزب الحرية والتضامن ÖDP، حزب العمل EMEP، الحزب الاشتراكي الديمقراطي SDP، حزب العمال، اتحاد الشباب التركي TGB؟ ما نوع المظاهرات التي ينظمونها، وما قوتهم؟
يتم الحديث دون مراعاة هذه الحقائق. بل حتى مجرد التذكير بحزب الشعب الجمهوري CHP، الذي هو أكثر جماهيرية من كل هؤلاء، يبدو عبثًا.

يبدو أنهم يظنون أن كون أغلب الفنانين، الصحفيين والمثقفين من اليساريين الاشتراكيين والكماليين مجرد صدفة. آه، لو لم يكن هؤلاء المثقفون الإسلاميون الفردانيون، الليبراليون، المهمشون والمقلدون بهذا البعد عن قضايا التنظيم، والجماعة، والحركة، لفهموا المسألة على الفور… لكن لا فائدة!

الآن، يُحاول البعض من خلال الإشارة إلى المجموعات الأولى المشاركة في الاحتجاجات أن يُثبتوا مدى “تعدديتها”. أولئك الذين لم يكونوا أغلبية يحاولون – بدهاء شرقي – إضفاء الشرعية على الحدث من خلال ادعاء أنه تَمثُّل للتعددية وتنوع الأيديولوجيات ووجهات النظر. لكن ادعاء التعددية هذا ليس إلا هراءً وخداعًا. الهويات العلمانية واللائكية التي تُعرّف نفسها على أساس العداء لأسلوب حياة المسلمين ليست تعددية، بل أحادية. وهذا لا ينطبق فقط من الناحية الفلسفية، بل من ناحية الخيارات السياسية والاجتماعية أيضًا، لأن المصدر والجذر واحد.

النقطة الثانية، هي كذبة أن هذه الاحتجاجات قام بها جيل جديد، حديث تمامًا، نقي، ومفعم بحب الحياة، والأشجار، والإنسان. هذا الادعاء تم ترويجه كوسيلة لتوسيع نطاق الحدث وجعله يبدو بريئًا، وتبنّته وسائل الإعلام المركزية، والفنانون الذين برزوا في الاحتجاجات، وحزب الشعب الجمهوري (CHP)، وبعض الكتّاب المحافظين الذين شاركوا أو دعموا هذه الاحتجاجات. ويكفي أن نقول لهؤلاء الناس التالي: فلننظر إلى من شاركوا بنشاط في هذه الاحتجاجات، ولنقارنهم بالمشاركين في احتجاجات عيد العمال في 1 مايو، والاحتجاجات التي أعقبت هجوم ريحانلي، واحتجاجات قضايا “أرغنكون” و”باليوز”، واحتجاجات على إعادة فتح الأقسام المتوسطة للمدارس الأئمة والخطباء، وعلى دروس القرآن والسيرة، واحتجاجات سينما “إيمَك”، وتلك المؤيدة للأسد.

ما مدى اختلاف التركيبة البشرية للمشاركين؟ من يحاول خداع من؟

يمكننا أن نُجري تقييماً ملموساً من خلال النظر في مجموعة من خمسة آلاف متظاهر. لا يمكن أن يتغير المشهد بظهور 3 أو 5 أشخاص جدد، بل الذين تغيروا هم هؤلاء الأشخاص الجدد أنفسهم. أما الجماعة التي يُزعم أنها سرقت الاحتجاج وانضمت لاحقاً إلى الحدث، فهي في الحقيقة في صميم الحدث، بل هي مالكته الفعلية. وفي الواقع، إن الوسائل الإعلامية للحركات الجذرية، القانونية وغير القانونية، مليئة بالمقالات التي تنتقد بشدة هذه الأطروحات التي طُرحت بشأن تقييم مجريات الأحداث والاحتجاجات.

إن فئة المثقفين الإسلاميين المحافظين، من النوع الفردي والانتهازي، يجيدون تماماً تجريد الأمور من محتواها الأيديولوجي، وتحويلها إلى أمر باهت بلا مضمون، ويحبون القيام بذلك كثيراً. وقد رأينا المشهد نفسه يتكرر مراراً في احتجاجات الحجاب خلال فترة 28 فبراير. أما الرفاق الثوريون الذين يحملون السلاح والزجاجات الحارقة، فهم لا يعجبهم هذا الأدب كثيراً – نقولها بكل صراحة!

دائماً نفس قصة الجيل

بالنسبة للفعاليات، التعبير عن الجيل الجديد أو جيل التسعينات هو أيضاً أسلوب تكتيكي مماثل. بعضهم طرح هذا التعبير بدافع تحويل الحدث إلى موضوع تافه ومثير للفضول، بينما استخدمه اليساريون الاجتماعيون والليبراليون لمنح الشرعية للشباب الذين سيلعبون دوراً محورياً في إسقاط الحكومة، ولزيادة المشاركة في الاحتجاجات، ولإظهار ضعف القاعدة الشعبية للسلطة السياسية. في كثير من الأحيان، تكون الأحاديث عن الأجيال لتفسير الظواهر السياسية والاجتماعية مضللة. فهل من الصحيح تفسير بنية المجتمع بأكمله عبر عينة مشكوك فيها تم تحريفها، خاصة مع تحول رياح الثورة لصالح الجهات المرتبطة بالانقلاب؟

على سبيل المثال، دعونا نتجاهل للحظة ارتباط غالبية الشباب المشاركين في احتجاجات حديقة جيزي بالتنظيمات اليسارية الاجتماعية، ولنفرض أن هؤلاء الشباب كانوا بلا تنظيم وقرروا فجأة المشاركة في الاحتجاجات، وكانوا يشكلون غالبية المشاركين. عدد المشاركين في الاحتجاجات معروف. والآن لننظر إلى التجمعات التي نظمها أردوغان ضد احتجاجات جيزي، والتي كانت من أكبر التجمعات الجماهيرية في تاريخ تركيا. ومن المؤكد أن جميع المشاركين فيها ليسوا شباباً فقط. لنفترض أن نصفهم شباب، أو بنسبة 30% بعد المفاوضات. ومع ذلك، فإن هذا العدد لا يزال أكبر من عدد المشاركين في احتجاجات جيزي. فما هذا الجيل الذي يكون فيه الأغلبية في الجانب الآخر؟ تكرار مزاعم الأجيال القديمة مثل جيل 68 وجيل 78 لم يكن صحيحاً، وكذلك الأمر بالنسبة لجيل التسعينات. ثم أُثير فضولي: لماذا عندما نقول جيل 68 أو جيل 78، نشير إلى الشباب الذين كانوا في تلك الفترة، أما عندما نقول جيل 90، فنأخذ في الاعتبار مواليد تلك الفترة؟ هل لأن تسمية جيل 13 أو جيل الألفين (جيل 00) لا تبدو جذابة؟

من المفيد قبول هذه الحقيقة: الهيمنة التي فرضها اليساريون الاجتماعيون والقوميون في تركيا عبر كل أنواع الحيل والكذب والتلاعب على تقييم وتحليل البنية السياسية والاجتماعية أثرت ليس فقط على هؤلاء الكتاب والمثقفين، بل وأثرت أيضاً بشكل ملحوظ على أبناء العائلات المتدينة ذات الوضع الاجتماعي الجيد. وبالأخص الوضع الذي واجهناه لدى أبناء العائلات التي حاولنا تصويرها أعلاه، وهو أمر يبعث على القلق بطبيعة الحال. فالحياة امتحان، ومن غير المؤكد أين سيقف الناس غداً، وكذلك أبناءهم، لكن التعليم والعلاقات والاختيارات والأولويات والمشاركات تعطي مؤشرات على مكانة الشخص في المستقبل. والأهل الذين ربوا أبنائهم على الأدب والاحترام، وعلموهم طاعة الوالدين، قدّموا لأمة محمد أطفالاً، خلاف ما رأوه في بيئتهم، أطفالاً لا تُرفض لهم كلمة منذ عمر عامين، يُسأل رأيهم، ولا يُمنع عنهم شيء، وتُوضع أمامهم كل الإمكانيات! من جلسات تقييم صور الرحلات الأخيرة مع الأصدقاء في مقهى في تقسيم حتى منتصف الليل، إلى النقاشات حول المشاريع الاجتماعية القادمة، أين يمكن لهذه اللقاءات الطيبة أن تقود الإنسان من حيث العمل الجماعي الصالح؟

الزمن، والسياق، والمكان، والظرف — لا شيء من هذا يهم هؤلاء الشباب! كل شيء يبدو بريئًا إلى حد السذاجة، هشًّا إلى درجة الانكسار! ولو سألتهم، لتحوّلوا جميعًا إلى أتباع لفوكو! يسود شعور وكأن هؤلاء الشباب قد خرجوا من الجنة، وسيرجعون إليها حتمًا وبضمان، فمهما فعلوا أو قرروا، يُنظر إليهم وكأنهم على صواب دائم! هذا التصور السلبي سببه أن الحداثة أصبحت وكأنها مرجع مطلق ووحيد. ويُفترض أنه كلما ازداد الإنسان حداثة، ازداد فردانية، وكلما ازداد فردانية، ازداد حرية، ومن ثم يصل إلى المثالية — وهذه الفكرة تُطبَّق عمليًا. بل إن هذه النظرية طُبقت على مجمل احتجاجات غيزي من خلال أيدٍ ماهرة مثل يد “الحداثية القلقة” وعالمة الاجتماع البارزة نيلوفر غوله.

تحمّلنا لعدة أيام محاولات رفع مكانة المشاركين في احتجاجات غيزي إلى مصاف “الخير المطلق، والصواب المطلق، والجمال المطلق، والحق المطلق”، متجاوزين دوافعهم الأيديولوجية والسياسية. لنفترض أن عالم اجتماع علماني-ليبرالي يؤمن بأن كون الإنسان فردًا حرًا هو النموذج المثالي للوجود الإنساني — لكن، على أي أساس يمكن لمسلم أن يدافع عن ذلك؟ هذا تلوث ذهني يفوق حدود الكارثة.

أي شجرة عظيمة يمكن أن تضفي الشرعية على تجاور خيمة المنحرفين المثليين التي تسمى LGBT والخيمة التي تحتوي على المحجبات؟ عندما نشاهد كمية الخمر التي تُشرب، وحتى كمية الطعام التي تُؤكل، ما الذي يتبادر إلى الذهن غير صورة روما القديمة التي كانت في غاية السوء، فالناس دائمًا ما يعتقدون أن الزمن الذي يعيشون فيه هو أسوأ وأصعب فترات التاريخ. حتى أنه يتصرف بعقلية أنه الآن في آخر الأزمنة، في نهاية التاريخ. يُلتمس طريق الخلاص من خلال القول بأن المحصول والجيل قد هلكا. وهذا ما نجده أيضاً في ملحمة جلجامش التي كُتبت في أقدم عصور التاريخ، وكذلك الحال عندما ننظر إلى أعمال الإمام الغزالي الذي عاش في الفترة الوسطى. فهم يقولون إن الزمان قد فسد، والمحاصيل والأجيال قد خربت، ونهاية العالم قد اقتربت، ولا حياة بعد هذا. لكني أعتقد أننا أكثر صوابًا في علم النفس هذا. لأن لدينا كارثة أخرى تسمى العالم الافتراضي، العالم الرقمي.

في هذا العالم، لا حقيقة سوى العالم الافتراضي، وكل ما عداه كذب

الأفراد والمجموعات القومية واليسارية الاشتراكية والليبرالية التي تعتقد أن الإدارة الرقمية الافتراضية وإدارة العالم الحقيقي، الذي نختبر فيه نحن، ممكنة وتعرف كيف تستخدمها بشكل جيد. لقد استخدم الأشخاص الحقيقيون والمنظمات التي خططت ونظمت ونفذت الأحداث مثقفين وعلماء اجتماع وفنانين وغيرهم من الأشخاص والمنظمات الحقيقية التي خططت ونظمت ونفذت الأحداث، وذلك باستخدام خدعة كلاسيكية وكليشيهات لإيهام الناس بأن احتجاجات جيزي بارك كانت جديدة تمامًا، وللاختباء وراء الشجرة و”رؤية” العالم الافتراضي. إنهم يصنعون دعاية فعالة للغاية لدرجة أن رومانسيي كومونة باريس الافتراضية الرقمية يغردون الآن على تويتر “استمروا! لقد بدأت الثورة!” رسالة تويتر يمكن أن تجعلنا الآن نعتقد أنهم يسيرون نحو النصر. وكما يعلم كل من يتابع سوق النشر عن كثب، فإن سكان العالم الافتراضي لا يحبون قراءة الكتب. لأن أدوات ومعدات العالم الذي يعيشون فيه من أدوات ومعدات العالم الذي يعيشون فيه، وكثرة الكلمات المستخدمة تجعلك تعمل وقتاً إضافياً، وتجبرك على القيام بعمل شاق مثل إدراك وفهم عدد كبير من الكلمات، وفوق كل ذلك تمنعك من عمل مزعج مثل التفكير والتأمل. ونظراً لقوة التكنولوجيا الرقمية في “إظهار الحقيقة” فإنها تقنع فوراً، ويقتنع المحاور الذي يقرأ التغريدات لا الكتب ويذهب في رحلة للتغريد بأنني كنت حاضراً أيضاً في أيام الثورة. ما مدى سعة الإدراك، واتساع الذهن، وثراء المفهوم، وقدرة الفهم التي يمكن أن يتمتع بها المغردون الذين يتسعون لـ 140 حرفاً؟ إذا كان سيكون هناك تويتر في المستقبل، فويل لذلك الجيل المستقبلي!

كما تهيمن الهيمنة العلمانية على العالم الرقمي والافتراضي. ونتيجة لذلك، يجب أن يكون المعنى الذي سينسبه العقل المسلم إلى هذا “المجال” محدودًا. ولذلك، من الضروري التساؤل عن الحرص والطموح لمنافستهم في هذا المجال. فالهيمنة، من خلال الخطاب الرقمي والسلطة الافتراضية، تُظهر كل المجالات كالسياسية والأخلاقية والبيئية وغيرها في أي موقف وحدث تريده، وتخفيها متى شاءت. فتصبح الأشجار في حديقة تقسيم غيزي رمزًا للبيئة، ويصبح المجال السياسي مخفيًا، ويحاول الجميع تقريبًا إظهار أنفسهم في هذا العرض المسرحي ويطلب من الجمهور قبول البراءة البيئية. لا يستطيع أطفال العائلات المتدينة المشاركة في احتجاجات غيزي أن يفهموا لماذا أصبح مكان عبثي مثل حديقة تقسيم غيزي رمزًا للبيئة.

لنفترض أن المشكلة في الحقيقة هي حديقة جيزي بارك والأشجار ومركز التسوق: لا ينبغي بناء تقسيم كمركز تسوق، ولا ينبغي فتحها للرأسمالية! قد يظن المرء أن تقسيم هي حديقة ورود. ومع ذلك، فإن تقسيم هي مركز فهم الفضاء ونوعية الأشخاص الذين تريدهم الرأسمالية. إنها عاصمة المناطق التي تحولت فيها مذهب المتعة إلى دين، حيث تمارس فيها المتعة بأكثر الطرق بدائية ولا أخلاقية، وحيث تبلغ الدعارة ذروتها، وحيث الناس مصممون دائمًا على الكسب والإنفاق، وحيث لا تمارس إلا ثقافة الاستهلاك. إن معارضة مراكز التسوق في تقسيم أشبه ما تكون بمعارضة البعوض عندما يكون المرء مدفونًا في مستنقع حتى القاع، أو بالأحرى حتى العنق. وبينما أكمل جيم بويانر، أحد أشهر الرأسماليين الأتراك، هذه الصورة الجميلة بلافتة “لا يميني ولا يساري، لسنا يمينيين ولا يساريين، نحن لسنا يمينيين ولا يساريين، نحن تشابولكويوز تشابولكو”، دعمت مجموعة كوتش الاحتجاجات، واستضافت المتظاهرين في فندق الديوان، وأثبت بنك جارانتي معارضته للرأسمالية بمشاركته في الاحتجاجات مع مديري العمال. لذلك، ما مدى إقناع ما يمكن أن يكون مقنعًا ما يمكن أن تقوله الشخصيات المتكتلة والفردية والميسورة اجتماعيًا واقتصاديًا والمريحة، ولكن المتململة والحريصة جدًا على الانتقادات المحلية للحداثة التي يتم توجيهها من خلال توطين الانتقادات البينية للرأسمالية والليبرالية والإسلاموية وما إلى ذلك؟

أصول العمل السياسي والاجتماعي

لنستمر في افتراض أن إدراج قضية حديقة جيزي ومركز التسوق (AVM) في جدول الأعمال هو أمر صحيح. في الخطاب السياسي والاجتماعي والعمل، كما هو الحال في الحدث نفسه، يجب أن تكون ظروف الصحة متوفرة أيضاً في مكان وزمان وكيفية ومن مع من يُعبّر عنه وينفّذ. في هذا السياق، ليس كافياً القول “جيزي جيدة لكن ما حولها سيء” أو “لكن هدفنا كان فقط الأشجار ومركز التسوق”. كما حاولنا أن نشرح سابقاً، هذا القول ليس صحيحاً أيضاً. ومن الواضح جداً أن أصحاب هذه التصريحات يشكلون نقطة صغيرة ضمن المشاركين في احتجاجات غيزي.
في القرآن والسيرة توجد العديد من الأمثلة الجميلة حول كيف يجب أن يكون المؤمنون بصيرة وحكمة وفطنة. مثلاً، في حادثة قطع الأشجار هناك العديد من الحكم في الآية 217 من سورة البقرة.
عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، أرسل ابن أخته عبد الله بن جحش، الذي كان يقود مجموعة تضم ثمانية أشخاص بينهم عمار بن ياسر وأبو حذيفة وسعد بن أبي وقاص، إلى منطقة النحل لجمع معلومات عن حالة قريش الأخيرة وأغراض استخباراتية.

عندما وصلوا إلى مكان المهمة، صادفوا قافلة صغيرة للمشركين. وبعد التشاور، تم اتخاذ قرار بشن العملية، فقتلوا واحداً من المشركين وأسروا اثنين منهم. تشير مصادر السيرة إلى أن هذه الحادثة وقعت في نهاية شهر رجب، أي في شهر الحرام. وعندما علم قريش بذلك، بدأوا حملة دعائية مكثفة ضد المسلمين، قائلين: “محمد سفك الدماء في شهر الحرام، ونهب الأموال، وأسر رجاله، وجعل الشهر الحرام مباحاً للحرب”.

فأنزل الله تعالى الوحي ليرد على هذه الدعاية السوداء، فقال:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ سورة البقرة: 217.

الانتقادات الموجّهة للرأسمالية، لكن كيف؟

يجب علينا أن نبدأ في مناقشة هذه المسألة أيضاً: إلى أي مدى كانت انتقادات المسلمين للرأسمالية والليبرالية أصيلة وحقيقية، وإلى أي درجة انطلقت من الديناميات الداخلية والمراجع الأساسية الخاصة بهم؟ على سبيل المثال، من الذي اخترع عداء المراكز التجارية (المولات)؟ إذا قال مسلم إن نموذج المركز التجاري الذي يحتوي في قلبه على مسجد، لأنه يشبه “البدَسْتان” (الأسواق القديمة) هو نموذج جيد، فهل يُعتبر بذلك قد خرج من الدين؟ وماذا عن تلك العبارة المكررة بشأن نقد السياسات النيوليبرالية؟ كم عدد الأشخاص الذين يستخدمون هذا المصطلح وهم يعرفون فعلاً ما هي السياسة الاقتصادية الليبرالية، وما هو “النيوليبرالي” فيها؟ هل أولئك الذين يعارضون السياسات النيوليبرالية يدافعون عن النموذج السابق، أي الاقتصاد الكينزي مثلاً؟

إن مجرد قراءة النقاشات الغربية الداخلية وترجمتها وتوطينها لا يصنع مسلماً موحداً ومجاهداً خارج عن النموذج الغربي. نعم، يجب الاستفادة من تلك التجارب وقراءتها، لكن لا يكون الخلاص إلا من خلال ديناميات ومراجع الإسلام. وهذا الخطأ الجوهري قد ارتكبه منذ وقت طويل أولئك الذين يدعمون احتجاجات حديقة “غيزي”، وهو أنهم يبحثون عن العزة والكرامة في غير الإسلام، في حين أن العزة والكرامة لا تُطلب إلا من الإسلام.

المسلمون مُكلفون بأداء الشهادة على العدل والحق، ويجب عليهم أداء هذا الواجب ببصيرةٍ وحكمةٍ وفطنة. إن النظر إلى العالم وكأنه يتمحور حول الذات يُخفي الحقيقة المتمثلة في أن الفئة الناشطة (الفاعلين في الساحة) لا تزال صغيرة جداً. وقد أظهرت الأحداث الأخيرة بوضوح كيف تم استغلال التوجهات “الحدّية” أو المتواضعة (الجزئية) من قبل التيارات اليسارية-الاشتراكية، الكمالية والليبرالية ذات المطالب الكبرى. إن الجاكوبية الكمالية والماركسية، والتسلط الليبرالي وغطرسته، أعلنت بوضوح أنها تضع نمط الحياة العلماني-الليبرالي فوق كل شيء، وتخوض صراعاً من أجل ترسيخه كنمط حياة وحيد. والمهمة الملقاة على عاتق المسلم ليست الدخول في عقدة النقص أمام الهيمنة الكمالية واليسارية والليبرالية، بل أن يتحرك بوعي تام بهذه المعركة. وينبغي أن يكون تصور المسلمين لمدنهم، من حيث العمارة، والتخطيط البيئي، والسياسات الاجتماعية والاقتصادية، والاعتراض على ممارسات السلطة وخطاباتها الخاطئة، والتفاعل مع السياسات المحلية والعالمية—كل ذلك يجب أن يتم ضمن إطار من الوحدة، والمشاورة، والتشارك، وتحمل المسؤولية بين المسلمين، دون الانفصال عن روح الأمة.

Giriş Yap

Assam ayrıcalıklarından yararlanmak için hemen giriş yapın veya hesap oluşturun, üstelik tamamen ücretsiz!